تأثير السمنة على المفاصل: آليتان رئيسيتان لتدمير الغضروف
دكتور محمود عبد الله
تأثير السمنة على المفاصل: الآلية المزدوجة لتدهور الغضروف
لم تعد السمنة مجرد مشكلة جمالية أو حتى مجرد عامل خطر لأمراض القلب والسكري، بل تُعد اليوم وباءً عالمياً يؤثر بشكل مباشر ومضاعف على الجهاز الحركي والمفاصل. يمثل تأثير السمنة على المفاصل جانباً بالغ الأهمية من جوانب الصحة العامة، حيث أنها السبب الرئيسي وراء الإصابة بخشونة المفاصل (Osteoarthritis) في سن مبكرة، مما يؤدي إلى آلام مزمنة وإعاقة وظيفية وتدهور في جودة الحياة.
تكمن خطورة السمنة في تأثيرها المزدوج على المفاصل: تأثير ميكانيكي بحت، وتأثير بيوكيميائي التهابي جهازي.

للتواصل واتساب
أولاً: التأثيرات الميكانيكية (الحمل الزائد)
التأثير الميكانيكي هو الأكثر وضوحاً، ويتركز على المفاصل الحاملة للوزن. تؤدي زيادة كتلة الجسم إلى تضخيم القوة المؤثرة على المفاصل بشكل لا يتناسب مع الزيادة الفعلية في الوزن:
- زيادة الحمل الديناميكي المُضاعف: يزيد الوزن الزائد من الضغط الميكانيكي على مفاصل مثل الركبة والورك والعمود الفقري. وتشير الأبحاث إلى أن حركة المشي تزيد من القوة المؤثرة على المفاصل. فكل زيادة بمقدار 1 كجم في وزن الجسم تترجم إلى حوالي 3−4 كجم زيادة في الحمل على مفصل الركبة أثناء المشي. ويرتفع هذا الحمل بشكل أكبر عند صعود الدرج أو الجري.
- تسارع تآكل الغضروف: الغضروف المفصلي هو نسيج مرن يعمل كوسادة حماية لامتصاص الصدمات. الضغط المستمر والمفرط الناتج عن الوزن الزائد يسرّع من عملية تآكل هذا الغضروف. ومع تدهور الغضروف، تبدأ العظام بالاحتكاك المباشر، مما يؤدي إلى الالتهاب والألم، وهي الأعراض المميزة لـ خشونة المفاصل. هذا التآكل يختصر العمر الافتراضي للمفاصل بشكل كبير.
- تغير بيوميكانيكا الحركة وزيادة الإصابات: يؤدي الوزن الزائد وتراكم الدهون حول البطن إلى تغيير مركز جاذبية الجسم. هذا التغيير يضعف التوازن ويؤدي إلى مشية غير طبيعية (Altered Gait)، ما يزيد من خطر تعرض المفاصل لإصابات حادة مثل تمزق الغضاريف الهلالية في الركبة أو التواء الأربطة نتيجة الحركات المفاجئة.
ثانياً: التأثيرات البيوكيميائية والالتهابية (الآلية الخفية)
تأثير السمنة على المفاصل لا يقتصر على الضغط الميكانيكي وحسب؛ فالسمنة تُعتبر حالة مرضية التهابية مزمنة منخفضة الدرجة. هذا الجانب البيوكيميائي يشرح سبب إصابة الأشخاص الذين يعانون من السمنة بخشونة المفاصل حتى في المفاصل التي لا تحمل وزناً كبيراً، مثل مفاصل اليدين والكتفين.
- دور الأديبوكاينات (Adipokines): الخلايا الدهنية (النسيج الشحمي) ليست مجرد مخزن للطاقة، بل هي نسيج فعال يفرز هرمونات وبروتينات تُعرف باسم الأديبوكاينات. من أهم هذه المواد:
- اللبتين (Leptin): يشارك في تنظيم الشهية، لكنه أيضاً يعزز إنتاج السيتوكينات المؤيدة للالتهاب في المفاصل، مما يسرّع من تدهور الغضروف.
- الأديبونيكتين (Adiponectin): بالرغم من أن مستوياته تنخفض عادةً مع السمنة، إلا أن وجوده يؤثر على عملية الأيض داخل الغضروف.
- الالتهاب الجهازي وتدهور الغضروف: تنتقل هذه المواد الالتهابية عبر مجرى الدم لتصل إلى جميع المفاصل. عندما تصل إلى الغضروف، فإنها:
- تُحفز الخلايا داخل المفصل على إفراز مواد كيميائية تزيد من الالتهاب.
- تُضعف قدرة الغضروف على تجديد نفسه وإصلاح التلف.
- تزيد من تآكل العظم تحت الغضروفي (Subchondral Bone). هذا الالتهاب الجهازي هو ما يجعل خشونة المفاصل لدى مرضى السمنة أكثر عدوانية وتطوراً مقارنة بالأشخاص ذوي الوزن الطبيعي.
المفاصل الأكثر تضرراً من السمنة
تتأثر مفاصل الجسم بدرجات متفاوتة، ولكن الخطر الأكبر يتركز على:
- الركبة (Knee): هي الأكثر عرضة للإصابة بخشونة المفاصل بنسبة تتجاوز أربعة أضعاف. يُعد الوزن الزائد السبب الأهم في خشونة الركبة المبكرة.
- الورك (Hip): يؤدي التحميل الزائد إلى زيادة الضغط على المفصل العميق، مما يرفع بشكل ملحوظ معدلات الحاجة إلى عمليات تغيير مفصل الورك في سن مبكرة.
- العمود الفقري القطني (Lower Back): الوزن الزائد يسبب ضغطاً مزمناً على الأقراص الغضروفية (Intervertebral Discs)، ويزيد من تقوس الظهر (Hyperlordosis) بسبب دهون البطن، ما يؤدي إلى آلام أسفل الظهر وزيادة معدلات الانزلاق الغضروفي.
- مفاصل اليدين والقدمين: تتأثر بشكل غير مباشر بالالتهاب الجهازي الناتج عن الأديبوكاينات المفرزة من الخلايا الدهنية.
الوقاية والعلاج: إنقاذ المفاصل
لحسن الحظ، تأثير السمنة على المفاصل هو عامل خطر قابل للتعديل بشكل كبير. السيطرة على الوزن تُعد حجر الزاوية في الوقاية والعلاج:
- إنقاص الوزن كأولوية علاجية: تشير الأدلة العلمية إلى أن فقدان 5% إلى 10% فقط من إجمالي وزن الجسم يحقق تحسناً كبيراً وملحوظاً في ألم المفاصل ووظائفها. هذا التحسن يقلل الحمل الميكانيكي ويقلل مستويات الأديبوكاينات الالتهابية في الجسم.
- النشاط البدني النوعي: يجب أن يتم النشاط البدني بطريقة لا تزيد من الحمل على المفاصل التالفة. يُنصح بتمارين منخفضة التأثير مثل السباحة وركوب الدراجة أو المشي على أسطح ناعمة، لتقوية العضلات الداعمة دون زيادة تآكل الغضروف.
- العلاج الطبي والدعم: قد يتضمن العلاج استخدام مضادات الالتهاب أو المسكنات، بالإضافة إلى العلاج الطبيعي لتقوية العضلات. في حالات السمنة المفرطة، قد يُنظر في جراحة السمنة (Bariatric Surgery) كحل جذري لإنقاذ المفاصل من التلف النهائي.
الخلاصة
تأثير السمنة على المفاصل ناتج عن تحالف معقد بين الإجهاد الميكانيكي والتأثيرات الالتهابية الأيضية. هذا المزيج يجعل السمنة من أهم عوامل الخطورة القابلة للتعديل في أمراض المفاصل. التركيز على إنقاص الوزن ليس فقط قراراً لمدى الحياة، ولكنه ضرورة للحفاظ على سلامة الغضاريف ووظيفة المفاصل، مما يقلل بشكل كبير من الحاجة للتدخلات الجراحية ويحسن جودة الحياة.
لا تفوتك مقالاتنا عن فيتامين دال النشط والغير نشط: رؤية علمية طبية



